مجتمع مدني

الخميس - 23 يونيو 2022 - الساعة 11:47 ص بتوقيت اليمن ،،،

عين العرب - خاص

تقرير من إعداد و كتابة :
أمجد الرامي
 
الناس تنفر من غير المألوف دوما ، إلا عندما يبهرها الأمر ويرغمها على الإقبال إن عجباً وإن إعجاباً ، وهكذا كان سالم مفلح كما يحب أن يسمي نفسه متجرداً من كل صفة أو لقب ، وهو شان النفوس العالية التي لا ترى في لقب أو صفة رفعة أو مدحة ، مفلح الذي عاش مثالاً لرجل المواقف الثابتة وغادر دنياه غير آبهٍ بمغانم فاتته أو فاقة آذته .
في هذه السطور نحاول ان نحيط بمحيط ، وهو أمر جلل ، لقد كان مفلح محيطاً ، ويصعب احتواء فكره أو فلسفته في تقرير من بضع فقرات فقد كان مثقفاً ملماً وعالماً موسوعياً بحق .

حياته :
الفقيد الراحل المؤرخ الباحث سالم فرج عوض مفلح ولد في 1950م الديس الشرقية حضرموت ، درس الابتدائية في الديس الشرقية بحضرموت ، والمتوسطة والثانوية في دولة الكويت وهي الفترة التي صقلت فيه حب الإطلاع بشكل عام خاصة في الفلسفة و التاريخ ، حاصل على دبلوم لغة عربية من كلية التربية جامعة عدن ، له رصيد نضالي فقد كان عضواً بالجبهة القومية ، صدر له كتابان الأول  : حضرموت بين القرنين السابع والعشر الهجري والثاني : استلاب الهوية ، وله عدة أبحاث مطبوعة ،له من البنين ستة ومن البنات أربع .
كانت وفاته بتاريخ 3/2/2022م عن عمر ناهز 73 عاما  ، ودفن في مسقط رأسه في الديس الشرقية .

فكره ومنهجه :
لقد كان باحثاً قلِقاً مسكوناً بالتساؤلات ، مفتوناً بالمساءلات التاريخية ، حد أن يراه بعضهم مستفزاً جارحاً صادماً ... هكذا وصف الدكتور سعيد الجريري الراحل مفلح ، بصفات ثائر يرفض أن يتلفع بجلباب ورثه حتى إن كان جلباب أبيه ، ورجل بهذه الصفات كان لابد ان يكون نتاجه مختلفاً ، متميزاً بل وحتى صادما ، وهكذا كان مفلح .
لقد كان مفلح مؤرخاً وقد سبقه في هذا جمع ، ولكنه تناول التاريخ وتعامل معه بأسلوب لم يعهده السابقون ، رغم انه كان متاحاً لهم ما كان لمفلح ، إلا أن المخالفة للسلف عبء لا يطيق حمله كثر ، والمؤرخون الحضارمة كانوا كغيرهم من العرب إلا القلة القليلة من أمثال الراحل ممن اعربوا عن امتعاضهم من هذا الجمود كالمؤرخ الراحل سعيد باوزير الذي شكك في صحة المقولة التي تقول ان الأباضية في حضرموت لم يتركوا أي اثر يتحدث أو يدل على عقيدتهم و مذهبهم .
لقد انعكست على المؤرخين الحضارمة نفس إشكاليات نظرائهم العرب ، كالسردية والتمحور حول شخوص القادة والملوك والأمراء و التعامل أحيانا مع الخرافة والأساطير ، بينما أهملوا الشعوب وحالاتها بل وأغفلوا الحديث عن التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية وأشباهها واخذوا بالأثر العسكري السياسي فقط ، فأصبح تاريخنا سردياً جافاً في معظمه .

لاشك أن ثمة رواد خرجوا عن هذا المسار أمثال محمد عابد الجابري وقسطنطين زريق وغيرهم ، من الذين شكلوا تغييراً في هذا النهج القديم ، ونحن هنا يمكننا وبكل فخر أن نضع المؤرخ مفلح ضمن هذه النسق الذي تعامل بصورة مغايرة عما كان متبعاً .

حضرموت و مفلح :
( إن الأخلاف وجدوا في سيرة الأسلاف ما ينكرونه عليهم اليوم، فعمدوا الى إخفائها و إفنائها) ..... هذه العبارة للمؤرخ علوي بن طاهر الحداد ، ما كانت لتمر مرور الكرام على أمثال مفلح ، فقد كانت بمثابة المحفز للتفكير والبحث .
يفترض مفلح في كتاباته عن حضرموت وهو أمر يستشفه أي قارئ لنتاجه ، أن الشعب الحضرمي هو شعب يعيش بهوية ( مزيفة ومنحولة ومزوَّرة ) ، فقد كان مفلح يؤكد دوماً أن تداعيات الصراع العقائدي في المجتمع الحضرمي كان لها أثرها، و أن هذا الأثر كان سلبياً و أضر بمسار المجتمع الحضرمي ، مثلما هو مضر بأي مجتمع آخر يتعرض لهذا الأثر  .
لقد كانت القضية الحضرمية في نظر مفلح ، هي قضية استلاب للهوية الوطنية التاريخية ، ومن هذا المنطلق يرى مفلح أيضاً أنها قضية قومية تخص العرب جميعا ، وباعتبار هويات الشعوب وثقافاتها فهي أيضا قضية إنسانية ، معتقداً أن قضية الاستلاب وضياع الهوية الحضرمية تتطلب مشروعاً وطنياً استراتيجياً ، يواجه كل هذه العقبات والمصاعب والتحديات التي تقف أمام استرداد الهوية الحضرمية .

نتاجه الفكري :
بالإضافة إلى كتاباته المتفرقة و أبحاثه العديدة فقد صدر للمؤرخ الراحل كتابان ( الأول بعنوان ... حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر الهجري مشروع رؤية ، الثاني بعنوان ..التزوير واستلاب الهوية )  ، كلاهما أثارا ضجة وحراكاً غير مسبوق في الساحة الثقافية الحضرمية ، و امتد أثرها إقليمياً خاصة فيما يخص كتابه الأول حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر .
- كتاب حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر :-
الكتاب صدر في طبعته الأولى عام 2006م عن دار حضرموت للدراسات والنشر ، و يرى الأستاذ عمر حمدون أن هذا الكتاب يمكن أن يعتد به كدراسة بحثية قيمة لجانب مهم في تاريخ حضرموت المذهبي – العقائدي – والسياسي ، في فترة من فترات تاريخها الوسيط ، موضحاً أن أهمية هذا الكتاب باعتباره أنه دراسة بحثية  تكمن في أمرين متداخلين ، أولهما أنها دراسة تنسف أقوالا وكتابات تاريخية عن حضرموت اكسبها تقادم السنين صفة الحقائق ، وأضحى التشكيك فيها ضربا من التجني – عند البعض – على التاريخ الحضرمي وعلى شخصيات حضرمية كتبته وصاغت حقائقه ، الأمر الثاني انها دراسة تقدم رؤية جديدة لحقيقة المذهب العقائدي الذي كان سائدا في حضرموت قبل سيادة الأعتقاد السني الأشعري ، ذلك المذهب هو المذهب الأباضي –
المعتزلي . وكيف جاءت هذه الدراسة – الرؤية – لتؤكد في جانب منها ذلك الغموض وتلك الندرة ، وفي جانب آخرمنها تكشف عن تعمد مع سبق الأصرار لدي البعض لطمس او اخفاء او تشويه حقائق التاريخ لأغراض مذهبية او اجتماعية وسياسية .؟!

- كتاب التزوير واستلاب الهوية :
الكتاب أصدرته دار حضرموت للدراسات والنشر– المكلا – م / حضرموت، وبتمويلٍ كريمٍ من (مؤسسة أحفاد العباس للتنمية)، وينتمي الكتاب بحسب ما أشار مؤلفه الراحل إلى (الدراسات النقدية ما بعد الاستعمارية)، و حيث أن هذا الدراسات تعني بمرحلة ما بعد الاستعمار ، فأنها أيضاً تهتم بكشف الممارسات الاستعمارية التدميرية على شعوب المستعمرات .
ويعتبر مفلح أن كتابه ( التزوير واستلاب الهوية ) بمثابة الخاتمة لمشروع رؤيته التي أطلقها في كتابه الأول (حضرموت بين القرنين الرابع والحادي عشر للهجرة – العاشروالسابع عشر للميلاد: بين الأباضية والمعتزلة .
الكتاب مثير للجدل وصادم لكل التقليدين حيث يتناول موضوعات حساسة ، ويصل إلى نتائج صادمة ، كما يطالب الكتاب عند حديثه عن الاستعمار بخلق فهم آخر للمسألة الاستعمارية، يختلف عن الفهم التقليدي السطحي الذي قد تمّ تجاوزه منذ عقود مضت في الدراسات النقدية المعاصرة.
وبينما نظر كثير من القراء والمهتمين بالتاريخ الحضرمي إلى مصادره الموجودة نظرة تقدير فقد فجر الكتاب قنبلة فكرية حيث رمى بالنقد المصادر المنسوبة لـ (شنبل – بافقيه الشحري – باسنجلة – ابن حميد الكندي – عبد القادر العيدروس)، متهماً إياها بأنها هي المصادر التأسيسية والأساسية للرؤية الاستشراقية – الاستعمارية السائدة ، مؤكداً أن هذه المصادر ماهي إلا مصادر منحولة و مزوَّرة ومزيفة ، الأمر الذي أثار وسيثير جدلاً كبيرا في الساجة الثقافية الحضرمية .

ماذا قالوا عن مفلح وفكره :
إن شخصاً يحمل منهجاً وفكراً كفر مفلح وتوصل الى ماتوصل إليه بل وجهر به ، لابد أن يعاديه كثير ممن عمل التاريخ لهم أجيراً ، لكن بالمقابل فثمة قلوب أكثر أحبته (حتى وإن اختلفت معه ) وانكسرت عندما غادرها بدون رجعة .
وصفه د . سعيد الجريري قائلاً ( حسب مفلح في كتابيه أن أثار جدلاً، مهما يكن شكله، لكنه ليس جدلاً للجدل أو للاستفزاز ، فهو أشبه برمي أحجار في بركة راكدة، حجراً بعد حجر ، لتنداح الأفكار والتساؤلات والمساءلات دوائر دوائر ) .
الإعلامي ( أنور الحوثري ) وصف الفقيد بكونه شخصية مرحة و اجتماعية ، يعرفها أبناء الديس الشرقية ،ويتمتعون بمشاغباته الفكرية التي كما قال الأستاذ أنور أنها تحوي من العظات شيئاً عظيماً ،  مؤكداً أنه كان انساناً بسيط محتكاً بالناس ، رغم أن الراحل كانت له خلوات في سواحل شرمه ونواحيها يختلي بنفسه فيها لأيام ، إلا أنه لم يكن قط منزوياً او انطوائياً .
بينما قال الإستاذ عباس باوزير ان شهادته فيه مجروحة إذ كان مصاحباً له من أيام الزمالة في ثانوية الشويخ بالكويت إلى حين وفاته ، واعتبر الأستاذ عباس ان مفلح قلم جرئ ومثير للتساؤلات كتب وقال الكثير و قيل عنه الكثير ، و يكفي مفلح أنه اقتحم تاريخ حضرموت هذا التاريخ الذي ضل مغلقاً على مجموعة معينة من الأكاذيب ، مؤكداً أن كتابات مفلح وبالأخص كتابيه مفتاح لكل باحث ولكل مجتهد في كتابة تاريخ حضرموت وإعادة كتابته .
كما وصفه ( الأستاذ صالح عبدالله باوزير ) مستشار المحافظ للقافة والاعلام والسياحة بأنه رمز اعطى الأمة وأعطى التاريخ جل حياته ، وأن موروثه هو الباقي وعلى الأجيال أن تكمل الدرب .

فيما أكد الأستاذ سالم القاضي وهو من جملة القريبين منه أن الراحل طراز فريد من نوعه، وقامة علمية سامقة، تتقاصر أمامها القامات، و أننا قد لا نكون مبالغين إذا ما قارناه بغيرة من فطاحلة ورواد الفكر التنويري، في العالم العربي والإسلامي ،أمثال محمد عابد الجابري ونصر حامد ابو زيد، وعلي شريعتي، وغيرهم من رواد ومفكرين تنويريين.

خاتمة :
في الثالث من فبراير مضى مفلح إلى ربه فلا إقامة دائمة في هذه الحياة ، ومرض الفراق بالموت لا شفاء منه ،ومضى قبله كثيرون من عظماء حضرموت بلا كبير تكريم ، لكنهم يسكنون تفاصيل من أحبهم .
كانت وفاة  المؤرخ والباحث الحضرمي سالم فرج مفلح عن عمر ناهز 73 عاماً ، أمضاها تاركاً خلفه إرثا علميا مثيراً للجدل ، و باباً موارباً ، لربما يلجه بعده كثيرون ، وأفلح مفلح .

تقرير من إعداد و كتابة :
أمجد الرامي
خاص - عين العرب